د. صلاح جرّار
تجمع النظريات التربوية الحديثة على ضرورة تعليم التفكير النقدي للطلبة سواءً في مراحل التعليم العام أو مراحل التعليم العالي، لأنّ التفكير النقدي يمثّل عاملاً مهمّاً من عوامل تطوير البحث العلمي واكتشاف حقائق علميّة ومعرفيّة جديدة ومثبتة علميّاً ومنطقيّاً، ولذلك فإنّ البلدان التي يسمح فيها بالنقد هي البلدان الأكثر تقدّماً، بينما البلدان التي تكمّم فيها الأفواه تزداد تراجعاً يوماً بعد يوم. وللنقد، مهما كان نوعه ومجاله، أثران مهمّان، أولهما أنّه يسمح بالتدقيق والتفحّص والتأمّل والمراجعة والمساءلة وتصحيح الاجتهادات الخاطئة أو القرارات المشبوهة أو المقصودة.
وأمّا الأثر الثاني فهو أنّه يكبح جماح أصحاب القرار الذين ينزعون إلى التفرّد في قراراتهم وأحكامهم وتجعلهم أقلّ تسرّعاً ومجازفة في اتخاذ القرارات وتدفعهم إلى استشارة أصحاب الرأي أو الشركاء وإلى مزيد من الحذر وإمعان النظر وإطالة الدراسة قبل اتخاذ قراراتهم. وفي الحالتين تكون النتائج أكثر صحّة وفائدة وجدوى.
غير أنّ النقد على أنواع مختلفة، منها نقدٌ للأفكار ونقدٌ للإبداعات الأدبيّة والفنيّة، ونقدٌ لظواهر سلبيّة في المجتمع، ونقدٌ للمسؤولين بصفاتهم الوظيفية وليس بصفاتهم الشخصيّة.
ولكلّ نوع من هذه الأنواع طرفان يسمّى أحدهما نقداً ويسمّى الثاني إساءة وتعريضاً.
أمّا نقد الأفكار فيكون برفضها مع بيان أسباب رفضها وتفنيدها وتقديم وجه الصواب فيها معزّزاً بالأدلّة والبراهين، أمّا أن يتجاوز الناقد هذا الحدّ إلى مهاجمة صاحب الفكرة نفسه وانتقاد خصوصياته، فذلك ممّا لا يدخل في باب النقد بل في باب الإساءة والتعريض.
وأمّا نقد الإبداعات الأدبيّة والفنيّة، فإنّه في العادة يخضع لمناهج معروفة، لكنّ هذه المناهج تتفق جميعها على ضرورة التنبيه على حسنات العمل ومآخذه وليس على واحدٍ منهما دون الآخر، لأنّ الاكتفاء بالمآخذ أو المحاسن إنما هو تحيّز ومحاباة، وفي ذلك اعتبارات شخصيّة ولا سيّما إذا اقترن النقد باسم صاحب الإبداعات.
وأمّا نقد الظواهر السلبيّة السائدة في المجتمع، فإنّه ممّا تقع مسؤوليته على عاتق الكتّاب والمفكرين والمحلّلين، ولكن بشرط عدم الميل إلى تضخيم الظاهرة أو النيل من أشخاص محدّدين أو فئة محدّدة من المجتمع تمثّلها، وفي هذه الحالة يمكن الحديث عن الظاهرة وأسبابها ومخاطرها ونتائجها ووسائل التغلّب عليها.
إنّ هذا النوع من النقد يجب أن يسلّط الضوء على الظاهرة نفسها لا على أشخاص محدّدين قد تنطبق عليهم، لأنّ النقد في هذه الحالة يتحول من رسالته النبيلة السامية إلى النيل من الأشخاص ويعرّض الناقد نفسه للمساءلة.
وأمّا نقد المسؤولين فهو مشروعٌ قانونياً ولكن بشرط نقد أدائهم الوظيفي وبيان إيجابياته أو المآخذ عليه دون التعرّض للجانب الشخصي، ويفترض في هذه الحالة أن يفرّق الناقد بين الأبعاد الشخصيّة والأبعاد العامّة في النقد، وأن يكون لديه ما يكفي من الأدلّة والبراهين التي تدين المسؤول أو تشهد له بحسن الأداء حتّى لا يعدّ متحاملاً أو متزلّفاً.
وفي هذه الحالات جميعاً، ليس من حقّ أحد أن يحجر على الناقد نقده وآراءه التي يراها، أو أن يتعقّب ما يمكن أن يكون خلف سطوره، فذلك ممّا يدخل في باب القمع ومنع الحرّيات وممارسة الاستبداد ومصادرة الحقوق الفكرية.
[email protected]